علاء سرفاوي - مشروع وطني
علاء السرفاوي
بلدنا هذه السنة، بلغت الإكتفاء الذاتي من محاصيل الزراعة الموسمية مبلغ التخمة والتجشوء، ذلك بفضل كميات الأمطار الغزيرة التي تساقطت على نحو لم نشهد له مثيل من قبل.
تنبهت حكومتنا الى ذلك جيداً، فقامت بتدشين وأطلاق مشروع وطني طموح لتصدير فائض هذه المحاصيل. العجور، البطيخ، البامية، البطاطس، القثاء(التبش) سيتم تصديره.
حسب نبؤات العرّافين؛ فالمشروع من شأنه إزاحة الأزمة الإقتصادية العملاقة التي جثمت فوق صدر البلاد وسدت نفس المواطنين الغلابة فزادتهم موتاً على موتهم.
أسمعني: زن لي كيلو من الأرز ونصف كيلو آخر من اللحم، فيباغتك التاجر مغتطباً: خذ كوم البطاطس هذا مجاناً (البطاطس ما يديك درب) كما يقول الزبائن بسوق البطاطس إشارة الى كثرته.
فيما سبق أنا أيضاً كنت أبيع البطاطس ولمّا كسدت تجارة البطاطس، عملت حدّاداً في سوق السكاكين، ثم كمساري لبعض الوقت قبل أن يستقر بي المقام أخيراً بسوق الشمس بائعاً للسجائر وتبغ الشيشة والرصيد.
كوّنت أواصر بيع وشراء متينة مع جيراني الشمسيون و زبائني الجُدد وأصبحت بيدق أساسي بشطرنج السوق.
في ذلك الصباح وكما الموت في هذه البلاد، ظهر لنا فجأة بالسوق، عجوز مرِح مَرح المهرجين المتقاعدين ذاك، سمح المحيّا، رث الثياب، متلفحاً صلعة ملساء لامعة، ولحية بيضاء قصيرة منتوفة معلقة بتراخي على فكه الأسفل، تمنح هذه الصفات مجتمعةً إيحاءً بأن ضحكة ماكرة قد تنفجر من فمه محطمة الأسنان في أي لحظة.
إقتنى العجوز في ذلك الصباح من باعة الشمس ما سيسليه ويقصِّر له المسافة الى دار حزب (منبر صوت الغلابة) أو (مَص الغلابة) كما يُختزل.
داوم بعدها العجوز ارتياد السوق حتى أصبح تقسيمة لا تكتمل ملامح السوق من دونها، يشتري العجوز كل يوم السجائر والحلويات والتسالي وفي مرات قليلة كان يلمِّع حذائه عند الصغير كوجاك، أما في أيام الخميس فيشحن رصيد هاتفه ما يكفيه لأسبوع كامل.
بدأ الأمر عندما بعت العجوز صندوق السيجارة بنصف سعره الأصلي، في الحقيقة هو من استجداني وألح على السعر بحجة الفلس وتأخير المرتب وذات سهو ضاع مني سجل المديونية بدفتر أحلامي المتصدعة، دفتر أصفر كنت أحتفظ به بدرج فترينة السجائر.
أستمرأت مديونيات العجوز فيما بعد الضياع بدفتر الأحلام، ثم أصبحت أبيعه الصندوق بنصف السعر لا لشيء إلا لأهرب بجلدة أذني من مخاطر أعذاره المملة التي ينسجها ببراعة نادرة نُدرة الشجارات اليومية بين حدّادي صناعة السكاكين والأسلحة البيضاء.
بل وأحياناً أدع العجوز يأخذ صندوق السيجارة مجاناً، حين تستبد بي مشاعر الشفقة على حاله البائس الذي يرثيه يائساً:
- مع انهيار العملة المحلية من رهق مطاردة الدولار أصبح دخل السياسي اليوم لا يكفي متطلبات حياته اليومية يا ولدي، السياسة اليوم كسدت وأصبحت تمارس في كل مكان، حافلات المواصلات، جلسات القهوة والشاي، بيوت الدعارة والأندايات، قروبات الفيسبوك، صفوف الخبز ...الخ. كل من هب ودب اليوم يتكلم في السياسة وشؤون البلد، ماذا تبقى لنا نحن الساسة؟!
يمسح السياسي العجوز صلعته متفقداً بها شيئاً غير موجود ويضيف في حسرة:
- سقطت الهيبة التي كانت تعمِّد رأس رجل السياسة في الأيام الخوالي.
يذهب السياسي العجوز كل يوم مشياً الى دار الحزب مارّاً بالباعة الشمسيون على رصيف الشارع، يشتري منهم السجائر والتسالي، أما حذاءه فلا يلمّعه إلا (حين) يزورهم في الدار رئيس الحزب، كوّنت طبقات هذه (الأحيان) مع مرور الأيام كرة شرطية بذهن فتى الورنيش، ثم أخذت الكرة تنمو وتنتفخ شيئاً فشيئاً كلما مرت سيارته الفارهة بزعيق نجدتها المزعج الى أن أصبحت معلماً مميزاً بذهن فتى الورنيش، فمرور سيارة رئيس الحزب قاصدة الدار، يعني للصغير كوجاك، تلميع حذاء السياسي العجوز.
ذات يوم بادرني السياسي العجوز قائلاً:
- أسمعني يا صابر لماذا لا نجعل مبعيات سجائرك ترتفع حد الجنون؟
= كيف ذلك؟
- بسيطة، هذه اللافتة المضيئة أسفل فترينة السجائر نجعل المارة يقرؤونها لمدة أطول!
= وكيف نجعل ذلك يتحقق؟
- حسناً، سأُسمِعك سر حزبي، لكن رجاء لا تبح به لأحد!
= سرك في بئر يا سيدي.
- طبعاً يا عزيزي هناك توجه حكومي لإزالة معالم العهد الكلولينيالي البغيض الذي لولاه لما كان حال البلاد اليوم بهذا السوء، المباني العتيقة، الجسور، المنشأت وكل ما هو كلونيليالي سيُهدم قريباً.
= أي عهد الكُلّهُ نيلي هذا؟
- العهد الإستعماري لو تذكره في دروس التاريخ؟
= وما علاقة التاريخ بزيادة مبعيات سجائري؟
- عزيزي ما لا تعلمه هو أن حزبنا له القدح المعلّى من الأصوات التي تسند القرارات البرلمانية، فحين يتم تشييد الجسر الوطني، سنشيده ضيقاً بما يكفي لخلق زحمة بطريق الأسفلت الذي يمر من أمام فترينة سجائرك، الأمر الذي من شأنه أن يزيد المدة الزمنية التي يقضيها ركاب السيارات والراجلين في قراءة لوحتك الأعلانية وستزيد تباعاً مبيعات السجائر عندك أضعاف مضاعفة والمحصلة ملاييين الجنيهات التي ستدخل جيبك كما ترى.
وسعة الجسر الوطني طبعاً، مرهون بكمية الأموال المدفوعة، دفع أكثر يعني جسر أضيق، يعني ربح أكثر وقس على ذلك دخل كوجاك فتى الورنيش وأميمة بائعة التسالي وبائعات الطعمية وكل باعة سوق الشمس، الموضوع متروك لسيادتكم، تمحصوه جيداً وأنا في إنتظار الكلمة الأخيرة!
ذهبت وعرضت مشروع السياسي العجوز لباعة سوق الشمس، نال المشروع إستحسان أغلب الشمسيون، وافق أغلبهم على الفور، القليل فقط إرتاب وتردد، لكن في اليوم الثالث الجميع في سوق الشمس وافق على المشروع الطموح.
إتفقنا مع السياسي العجوز على سعر مشروعه الوطني بعد تفاوض قصير وشرعنا فوراً في الإتفاق فيما بيننا على المبلغ الذي يجب أن يشارك به كل شمسي.
أشهر من الإدخار ومعافرة نزق الزبائن العابرين، جهزّنا خلالها مالاً كافياً لفتق إبتسامة واسعة بثغر السياسي العجوز لحظة تسلَّمها.
بعد أسبوع من دفع الشمسيون للمبلغ؛ بالفعل خرجت صحف مقربة من مَص الغلابة بالبنط العريض كتبت:
(إتجاه حكومي لإزالة معالم العهد الكونيليالي بالبلاد في إطار مساعيها لبناء ذاكرة وطنية مستقلة أصيلة)
فرح جنوني صاخب تفجر وسط الشمسيون، حلّقنا بأخيلتنا آفاقاً من النعيم والعيش الكريم لم يسمع بها أحد غيرنا وذلك السياسي العجوز، يومها وزعنا جل بضاعتنا للسابلة مجاناً من فرط موجة الفرح التي تغشّتنا، غنينا، رقصنا، حوّلنا السوق الى حانة رقص مفتوحة، الأمر الذي إستدعى إنتشار مكثف للقوات الأمنية والإستخباراتية بالسوق خوفاً من تحوّل عفوية الرقص الى ما لا يحمد عقباه.
في ذلك التاريخ المحدد لهدم الجسر الكلونيليالي، ساعات فقط من العمل المتواصل حولت الجسر الى حطام تناثر هباءه متلاشياً في الفراغ.
شهور كثيرة مرت على هدم الجسر الكلونيليالي، والحكومة لم تفِ بوعدها وتشيِّد جسر وطني محله.
كل ذلك لم يكن يهمنا كثيراً فنحن الشمسيون سنبيع سجائرنا وطعميتنا وتسالينا ونلمِّع أحذيتنا شُيّد الجسر الوطني أم لم يُشيد لكن ما لم نفهمه هو هل هنالك مشروع وطني لتصدير الفائض من الساسة أيضاً هذه الأيام كما البطيخ والبطاطس؟! فمنذ أن تسلّم مِنّا السياسي العجوز المال لم نره أبداً، أن لم يكن ها نحن الشمسيون نطرحه.
تعليقات
إرسال تعليق