عوض عثمان عوض - تداعيات يناير الحزين





 تداعيات يناير الحزين


( وقد فتشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه) 

 محمود درويش


 


ظللت أتابع الأخبار الواردة من السودان مع الصديق خالد الزين بقلق شديد.. وذلك بعد صدور قوانين سبتمبر.. آخر المهازل كان الديكتاتور قد نصب نفسه إماماً للمسلمين .. عارضت أحزاب وقطاعات واسعة هذه القوانين .. خالد الزين كان من الطلبة الناشطين سياسياً ومعروف عنه عداءه الأزلي لنظام مايو الشمولي .. الحزب الجمهوري الذي يقوده المفكر محمود محمد طه كان من أشد المعارضين لهذه القوانين  .. أخرج الحزب منشوراً عارض فيه تلك القوانين التي أسماها قوانين سبتمبر وقد لاقت تلك التسمية رواجاً واسع محلياً وعالمياً .. كان الجمهوريين قد رفعوا سقف المواجهة مع النظام لأعلى درجة في بيانهم الشهير هذا أو الطوفان .. كنا نجلس لساعات طويلة قرب المذياع نتنقل من إذاعة لأخرى .. من لندن لمونت كارلو وصوت أمريكا .. أذكر أنني في يوم من الأيام عدت من العمل متأخر بعد وردية المساء.. وجدت بورتريه مرسوم للأستاذ محمود محمد طه  ومعلق في بهو الصالة .. أعجبتني دقة تفاصيل ملامح الوجه الذي لم ينسى أدق جزئية .. في اليوم التالي  أثناء حديثي مع ودالزين علمت أنه هو من رسمها .. كانت مفاجأة لي لأول مرة أن أعرف إنه من عشاق الرسم لهذه الدرجة .. قلت له لماذا لا تواصل هذه الموهبة .. ضحك كعادته وقال لي : موهبة مين يا شيخ جيلاني أنا مجرد هاوي فقط وهذه خربشات غضب ليس إلا .. قلت له لو كان الأمر كذلك ما أجمل غضبك  النبيل الذي يخرج لنا هذه المواهب المدفونة  .. قال لي مازحاً : هذا من نقاء سريرتك يا جيلاني .. لكن  ما تحسسني إني جينتيلي زمانه ..  ضحكت وقلت له أنت جينتيلي السوداني .. ثم قلت له ماذا تتوقع شكل السيناريو القادم على الأرض ..  سكت لبرهة من الوقت ثم قال لي : معروف مما سبق أن النظام متسلط ونميري وصل لذروة جنونه .. عندما سلم نفسه للدجالين الذين صوروا له نفسه أنه إمام وصاحب كرامات .. لكن أجزم لك أن نهايته أوشكت وستثبت لك الأيام صدق حدسي .. يبدو أن الجمهوريون حسموا أمرهم وسوف يدخلون في مواجهة علنية مع طغمة مايو .. النظام يعلم أن نهايته تلوح في الأفق ولن يصمد أكثر من ذلك ..  لقد قرأت كل إصدارات الأستاذ وأعجبني بحق فكره الثاقب إتفقنا أم إختلفنا معه .. لم يستطيعوا مجادلته بالحجة لذا ظنوا أن الفكرة ستموت بتصفيته.. لكنهم واهمين وهم الديك الذي يظن أن الصباح يأتي لصياحه فقط ..  


أمثال الأستاذ الحياة بالنسبة لهم رحلة عابرة .. والموت لا يخيفه على الإطلاق .. بل يخيف الديكتاتوريين الجبناء فقط .. ( موتوا قبل أن تموتوا ) كما قال النبي المعصوم ..


لقد كان الأستاذ محمود شامخ مثل أشجار النخيل , وقوي مثل جبل توتيل , ورقيق مثل نهر النيل.. أعتقد أن مرافعته أعظم مرافعة أسمعها طيلة حياتي ..


كانت محاكمة للقضاة البائسين ولنظام مايو الدموي برمته أكثر مما كانت له .. الشيخ الأعزل الذي لا يملك سوى ضميره وعقله وحجته .. كانوا هم الجناه وهو القاضي ..  لقد كانت محكمة مهزلة بمعنى الكلمة تمت في فترة وجيزة جداً .. الفترة من الإعتقال حتى الإعدام لم تتجاوز إسبوعين بالتمام و الكمال ... إنها محاكمة سياسية بإمتياز وليس لها علاقة بالدين أو الأخلاق أو الشريعة  ..


كان الأستاذ هادئ  هدؤ عجيب مثير للدهشة والفخر.. وواثق من نفسه لدرجة بعيدة.. ينظر للقضاه في وجوههم التي يبدو عليها الخوف بكل جلد وإيمان وصبر وعزيمة .. لقد كانوا في حالة خزي وضعف وإنكسار تام ..  قال لهم في كلمة مرتجلة وبسيطة وفي بساطتها يكمن عمقها .. ستظل  كلماته عالقة في ذاكرة المشاهدين والمستمعين لأمد بعيد  :


( أنا أعلنت رأيي مراراً، في قوانين سبتمبر 1983، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفّرت عنه. يضاف إلي ذلك أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب، وسوقه إلي الإستكانة، عن طريق إذلاله. ثم إنها هددت وحدة البلاد. هذا من حيث التنظير. وأما من حيث التطبيق، فإنّ القضاة الذين يتولّون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنياً، وضعفوا أخلاقياً، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر,والتنكيل بالمعارضين السياسيين..)


... مثلما كان محمود  شجاعاً في المحكمة فقد كان أكثر شجاعة عند تنفيذ حكم الإعدام .. قالوا له تراجع وقدم إسترحام فرد لهم : لو عايز الرحمة ما كان خرجت من رحم أمي ..  قال لي أخي الصغير من هناك ( لم أرى هذا الوطن جريح ومكسور وحزين غير ذلك اليوم .. تكاد الأرض تشهق من الحزن .. والأشجار تتساقط من الإنكسار .. والقلوب الجريحة تبكي بألم دفين .. كان صباح بارد وكئيب ذلك اليوم الذي تم فيه تنفيذ الحكم ) .. صمت سديمي يليق بفداحة هذا اليوم .. حتى الطبيعة نفسها هنا بدت رافضة وتشارك تفاصيل هذا الألم..  في هذا اليوم الحزين  الذي سيظل وصمة عار في جبين نظام أدمن تصفية معارضيه بمختلف الحجج ..


أراد النظام أن يذله لكنه رد لهم الصاع صاعين كما يقال ..موقفه البطولي هز عرش نظام مايو وسحب البساط من بين أيديهم .. سيقول التاريخ كلمته كان في هذا الزمان إنسان نبيل وشجاع  وقف وحده أمام طاغية ...


إنتصر بموته على حياة نظام بائس  بدأ يتساقط مثل أوراق الخريف الذابلة ... طبت يا محمود حياً و ميتاً في الأرض والسماء ..


اذكر جيداً أن ود الزين قال لي بأسى بالغ في ذلك اليوم ( سيذكر التاريخ الطاغية نميري فقط لأنه أعدم محمود محمد طه وغيره من الشهداء  الأبطال في عهده البائس ..  إننا نحتاج الف عام حتى تنجب لنا أرض السودان إنسان في قامته السامقة ...وواصل خالد : لقد شاهدت الأستاذ محمود محمد طه مرة واحدة في حياتي .. رأيت فيه كل الصفات والخصال النبيلة التي يندر أن تراها مجتمعة في إنسان واحد في هذا الزمن الأغبر.. رحل المفكر لكن الفكرة ستظل حية وماثلة ) ... عودة إلى سفر البدايات الأولى .. كان الأستاذ محمود قد كتب قبل عدة عقود في العدد الأول من صحيفة الجمهورية في عددها الأول :


( نحن نبشر بعالم جديد، وندعو إلى سبيل تحقيقه، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل، معرفةً عملية، أما ذلك العالم الجديد، فهو عالمٌ يسكنه رجالٌ ونساءٌ أحرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات، فهم في جميع أقطار هذا الكوكب، متآخون، متحابون، متساعدون، قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم وفيما حولهم من الأشياء، فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب، تسمو بهم الحياة فيه سمتاً فوق سمت، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة، تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر، وجديد من الثمر) 1


لم تمضي أشهر معدودات حتى خرج الشعب السوداني كالطوفان وقال كلمته في إنتفاضة مارس/ أبريل .. ولقد كان إستشهاده بمثابة شرارة  ومن أسباب طى حقبة مايو بآثارها البغيضة.. لكأنه كان يعلم في قرارة نفسه أن هذا البلاء الجسيم يستحق تضحية كبرى .. محمود رجل سطر إسمه في ذاكرة التاريخ بأحرف من نور وضياء ووهج .. يحق الآن لخالد الزين أن يستعد لزيارة بلاده بعد سنوات الشتات المهيب في المدن  والمنافي الباردة ..


بينما أنجز السودان ثورته المباركة  وعدت بسلام ..  كنا نحن في تونس نتململ ونترقب بصمت وقلق لمن سيأتي بعد حقبة بورقيبة .. في نفس هذا العام حدثت مجزرة حمام الشط إثر الغارة الصهيونية على تونس .. إستهداف لقادة منظمة التحرير الفلسطينية  .. ظلت صور تلك المجزرة مرسومة في مخيلتي لسنين طويلة حيث إختلط الدم الفلسطيني بالتونسي .. كانت خيوط من الدم البارد تلطخ بدايات شهر أكتوبر الحزين الطافح بالألم والأسى  ...


( إنها تونس .. محطة اللجوء الفلسطيني بعد مجازر بيروت وصبرا وشاتيلا .. إنها قلعة الصمود والإنطلاق من جديد .. تونس التي إستقبلت مقاتلي المقاومة الفلسطينية من حركة فتح .. قلنا لبيروت سلاماً .. قلنا لتونس سلاماً.. قلنا لفلسطين إنا عائدون ) 2


مقتطف من مقال للمفكر محمود محمد طه -1


من مدونة عن مجزرة حمام الشط بتونس -2


فصل من رواية زهرة قرطاج 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إلى بهنس في ذكرى الشتاء - أبية الريح

النور حمد يكتب: الحكومةُ الموازية هي بداية المخرج

أحزابنا لا تعمل من أجل الوطن بل من أجل الحزب ولك الله يا سودان.