أحمد عيسى - اللا مبالية




أنا لا أحب المستشفيات وأكره كلمة 

(مستشفى) 

- مستشفى - 

هذه الكلمة تصيبني بالرعب لمجرد النطق بها فضلاً عن زيارة محل الشفاء.

وأقول: ألا يمكن للإنسان ان يشفى في المنزل؟

 يمكنني ان أصبر على المرض في البيت، فالصبر دواء أحياناً لكنه صعب، إلا انه أقل صعوبة من المكوث في المشفى، على الاقل بالنسبة لي…


أتذكر عندما مرض صديقي وكان لابد لي من زيارته، لأن هذا واجب إنساني بل سنة ينبغي المحافظة عليها…

في البداية شعرت بخوف يجتاحني وبدأ قلبي يدق.

 قلت: يا إلهي ما أصعب هذا الأمر، ظللت أدخل وأخرج عدة مرات بينما ازداد جسمي سخونة وبدأت أعصابي تفتر من الضغط عليها…


"لست ذاهب إلى مشنقة انه المستشفى يا رجل" 


هكذا قالت: زوجتي وواصلت عملها بكل هدوء، 


أترونها؟

 هادئة وكأنما لم يحدث أي شيء!

يالها من إنسانة قاسية، لم تعرني أدنى اهتمام، تذكرت أنه عندما آلمني ضرسي 

قالت: بكل هدوء 

– هيا ارتدي ملابسك ودعني آخذك إلى المستشفى


– أليس لديك ذرة رحمة يا إمرأة؛ كيف تاخذينني إلى المستشفى في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ 


ربما ينسونني في ركن مظلم من أركانه وسأختنق وأموت.


– سأكون معك لحظة بلحظة حتى يخلعوه لك وترتاح.


– أرتاح؟ لا توجد أي راحة في المستشفى أنا هنا مرتاح 


– إذن على راحتك 


انظروا إليها ماذا تقول "على راحتك"!


هكذا أعلق على آخر كلامها وامسك رأسي بقوة الآن ربما أفضل، لأنه كلما جاء ذكر المستشفى أشعر بأنني أفضل…


صديقة زوجتي كانت طبيبة، سألتها ذات مرة 


– كيف تعيشين في المستشفى يا ميمونة؟


– أنا لا اعيش في المستشفى بل اعمل فيه بالليل واحيانا بالنهار.


– تعملين فيه بالليل؟


– نعم وماذا في ذلك؟


– لا شيء فقط استغرب من مكوث المرء في المستشفى بالليل، هذا شي صعب حقيقة


– نحن نشعر بمتعة في عملنا بالمشفى!


"تقول انهم يشعرون بمتعة بتواجدهم في المستشفى ههه"…


في تلك الليلة لم تكترث زوجتي لإنفعالاتي وتوتري بسبب الذهاب إلى المستشفى لزيارة صديقي…بل واصلت عملها هادئة رزينة، عندها أدركت المعنى الحقيقي وراء المثل القائل:


 "الجمرة بتحرق الواطيها"!


أي أن الشعور مهما كان، لا يمكن تقاسمه وهذا كنت اعرفه جيداً…

ومهما بالغنا في التخفيف عن أي شخص من حدة آلامه وعذاباته لن ننجح بشكل كامل، لكن يمكننا تذكيره بفضيلة الصبر والتحمل وحثه عليه…


كانت زوجتي تدعك في يدها من العجين بهدوئها المعتاد، في تلك اللحظة خيل إلي أنني سقطت في المستشفى مغمى علي، والممرضات يدعكن صدغي ويداي كي لا أموت، كما تصور عقلي زوجتي وهي تولول وتصرخ بألم من أعماق قلبها وتقول: 


"لقد أخبرني انه لا يرغب في الذهاب لكنني لم اهتم به وتجاهلته" 


بينما صديقاتها يحتضنها ويقلن لها: 


" لا تأس لا ذنب لك في الامر انه القدر"


يا إلهي هذا المشهد أرعبني جداً واثقل على قلبي، اذ كيف للإنسان ان يفقد السيطرة على عقله ويتصور كل هذه المشاهد ويربط بعضها ببعض، انه الخوف عندما يسيطر علينا نفقد القدرة على التركيز والرؤية بطرق إيجابية كل ما نتصوره هو مشاهد مرعبة ومخيفة، كما اننا في خضم هذه التصورات نفقد احساسنا بوجود الاشياء من حولنا، لأننا ننغمس بشكل كامل في دوامة تفكير مستمر حتى يخرجنا شيء ما من خيالاتنا وسيطرتها الكاملة علينا….

وهاهي إمرأة تخرج من المطبخ مثل شبح، بعد ارتجافة اشبه بالإستيقاظ من نوم ثقيل، ادركت انها زوجتي تقف أمامي بذات اللامبالاة.


– الم تذهب حتى الآن؟

– ذاهب الآن 

– في أمان الله ولا تتاخر عن وقت الغداء 

وهكذا خرجت، في المحطة وجدت مجموعة من عربات الركاب، قلت لصاحب التاكسي وهو جالس على مقعده وعندما ناديته نظر إلي ببرود قائلاً:

– إلى أين؟

– المستشفى 

– أي مستشفى.

– مستشفى نيالا التعليمي..

– هيا بنا على بركة الله 

– نعم على بركة الله 

دقائق ونحن نقف أمام مستشفى نيالا التعليمي

اعطيته النقود اخذها دون ان يقول أي كلمة وضعها في صندق صغير وتحرك..

وقفت للحظة أمام البوابة مرعوب وسرعان ما خطرت ببالي فكرة…

اخرجت هاتفي واتصلت 


– الو أحمد صباح الخير كيف احوالك وصحتك،

 يا أخي سلامة (علي) ربنا يديه العافيه…

– الله يسلمك كيف ناس البيت وانت اخبارك وصحتك؟

– الحمدلله رب العالمين طيب، وين انت أنا في المستشفى في البوابة….

– انا طلعت على الصيدلية وجايي عليك

– تمام في انتظارك

الحمدلله الآن الوضع اهون بقليل وعلى الأقل معي شخص يمكن ان أشعر بأنني بخير معه…

وعندما وصلني كنت قد هدأت قليلاً، ودخلنا في الممر كان مجموعة من الناس بعضهم يجلسون، وآخرون يقفون ساندين ظهورهم على الحائط وكلهم، تبدو عليهم علامات الخوف والإنتظار، أدركت أن قسم العمليات يعمل الآن والآن يوجد جراحون يعملون بمشارط حادة…


 الحقيقة شعرت أنني أقف وبدأت أرى المرضى، يبدون كالموتى بين يدي الأطباء حولهم، ومن بين المشاهد رأيت شاباً طريح في غرفة العمليات، بينما مجموعة من الاطباء يتحلقون حوله ويعملون بحركة دؤوبة على بطنه، بينما مجموعة من الادوات الطبية ملطخة بالدماء وهو مسجى لا يتحرك، فيما تنتظر أمه وزوجته بالخارج لابد انها هذه الفتاة، التي لا تقف في مكان واحد، فتاة تنتعل صندل خفيف وفستان أخضر فتاة متوسطة الطول يبدو انهما زوجان حديثا الزواج، كانت تلف شالاً حول عنقها بينما تلف طرحة سوداء على رأسها، وجهها ممتلئ لا يمكنني الجزم أنها تبكي الآن لكنها ربما بكت قبل لحظات، والآن يكاد الإنتظار يقتلها…

وهنا تصورت زوجتي وهي تقف في ذات المكان وتنتظر بنفاد صبر بينما وجهها غارق بالدموع ولا يبدو عليها اي شيء من لامبالاتها المعهودة تلك…

يا إلهي كيف تغيرت بهذه السرعة ؟

وبينما أنا غارق في هذه الأفكار، سمعت مرافقي (أحمد) يناديني


 "من هذا الجانب"

في العنبر لم يكن ثمة شيء مرعب فاللحظة التي عشتها قبل قليل كافية بإخراج هذا الخوف من داخلي ومنحي هدوءاً صارماً، بل لامبالاة في وجه الألم وهذه القسوة التي نعيشها بشكل يومي ومتكرر، جلست وكأني شخص آخر بل تناولت قارورة ماء وشربتها كلها…

ونظرت في عيني صديقي ورحت أسأله…


– كيف حالك الآن يا (علي) هل تشعر بتحسن؟

– الحمدلله بخير وعافية

– اعذرني يا صديقي كنت مسافر عندما علمت بدخولك المستشفى وهاأنا ذا أتيت متأخر فالتعذرني يا صديقي..

– لا لا تقل هذا أبداً فاللناس مشاغل والحمدلله أنا بخير الآن، يقول الطبيب أنهم سيخرجونني غداً..!


وطوال فترة بقائي في المشفى لم أشعر بأي ضيق ولا أي توتر من جو المشفى، بل شعرت بتعاطف شديد تجاه المرضى، وللمرة الأولى فهمت ما كانت تعنيه صديقة زوجتي بقولها


" نحن نشعر بمتعة في عملنا بالمشفى"

لقد كانت صادقة 

إذ ليس ما هو أمتع من أن تستقبل مريض طريح الفراش، وتودعه وهو يضحك ويمشي على قدميه.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إلى بهنس في ذكرى الشتاء - أبية الريح

النور حمد يكتب: الحكومةُ الموازية هي بداية المخرج

أحزابنا لا تعمل من أجل الوطن بل من أجل الحزب ولك الله يا سودان.