نسيبة شرف الدين - بين الرياح والذاكرة
تخيل يا صديقي، أن تنظر إلى مخمص قدميك وتجدها مشققة، وهي تجف من التعرق المعتق برائحة الجلد الملّل، مغموسة داخل هذا النعل المرقَّط. الدماء جافة... تأمل، يا صديقي، أنك جالس بمأمن من الرياح العاتية أسفل تل رمل صغير في صحراء وحيدة. تحاول أن تستنشق نصيبك من الهواء، وأسنانك البيضاء غدت شديدة الصفار والتعفن. ثم تأتي الرياح، تحمل تلك الرمال صوب وجهك المكتظ بفتات التراب الناعم، إذ تخفي ملامح وجهك النضير. أغمض عينيك، علَّها تكون خاتمة العواصف.
تخيل، يا صديقي، أن تستفيق هكذا بلا ماضٍ أو مُتَّجه أو حتى متكأٍ رحيمٍ. في تلك الرمال، يا صديقي، كل ما عليك أن تجرّ كفة يدك وتمررها على وجهك، علَّ أهدابك تمنحك بصيص الرؤيا لتبصر ما حولك. رداؤك، يداك الملفوفتان بطقِّ قشور الثعابين، شعرك الخمري المبطن... لتقل في نفسك: ما هذا؟ ما هذا الزي؟ بربِّك، هذه الصحراء؟ ما هذا القرف؟ ممزقٌ، مقززٌ، كأنه نُزع تَوَّاً من جلد جِيفة لقيت حتفها من لدغة زاحف مسموم اللعاب، مسمغ جاف خشن، باهت الألوان معطر برائحة التعرُّق لحظة تتدفق فيها الأدرينالين.
تخيل، يا صديقي، أن تحاول النهوض وأن تصارع الرياح. مجرد محاولة، مثلاً، التشبث بالرمال وأنت مستلقٍ على ظهرك. التدحرج بات وشيكاً... دعك من هذا التخيل، انهض هيا، قاتل الرياح يا صديقي! هيا! يا إلهي، لقد سقطت وارتطمت بشيء صلب؟ هيا، انهض مجدداً. هذا فعل الجاذبية، نحن نصارع في الطبيعة أيضاً. انظر، بماذا ارتطمت؟ هيا، حاول أن تسرق النظر من خلف، ولا تكترث لأمر الرياح. ما الذي تخفيه عنك الذاكرة؟ هذا سلاحك يا صديقي، لماذا نهضت من نومتك؟ من أنا؟ عذراً، وأنت؟ أنت صديق الصحراء؟ بعض رفاقك مروا من هنا حاملين أرواحاً عدة، مدججين بسلاح الحياة؟ من أنت؟ ولماذا تركتموني وحيداً مثل السراب في الرمال؟
صديقي، نم. استلقِ، كفاك نهوضاً. دع حبيبات الرمال تغطيك. هيا، كفاك هراءً، استلقِ سأبلغك إذا مرت إحدى أرواح الرفاق. تخيل، يا صديقي، أن تنام وسط عاصفة الرمال دون أن تشعر بصوت الرياح أو صفير الجان. ترقد روحك في سلام، ويدفن سلاحك للأبد، وتنتمي إلى الرمال. مهما عصفت، تظل مكانك. نم صديقي، ودع المدينة تنام، وستنعم روحك بالسلام.
تعليقات
إرسال تعليق