أبية الريح - العاطفة الزاهدة: تصوّف القلوب
▪︎ مقدمة
في قلب الصخب، حيث تصطخب الأرواح في مزاد التعلّق، ينسحب الزاهد بصمتٍ لا يشبهه صمت. يقطع خيوط الوهم التي نسجها الغرام، فيتحرر من حبال القيد التي تسمّى "حبًا". ليس عداءً للحب، بل فهمٌ عميق لجذوره، كمن يرى ظل الشجرة ثم يدرك أن الأصل تحت التراب، لا فوقه. هكذا يخرج الزاهد من مدارات العاطفة، لا فرارًا منها، بل رغبةً في اتساعٍ أرحب، حيث المحبة بلا اشتراط، والتعلّق بلا تقييد.
▪︎ العاطفة بين التملّك والتحرر
حين تُولد العاطفة، تولد معها بذرة التملّك. نُحب لأننا نبحث عمّن يملأ نقصنا، كأن القلوب فجواتٌ تفتّحت في أعماقنا، نرجو ملأها بمن نختار. لكن الزاهد يرى غير ذلك، لا ينظر إلى القلب كوعاء ينتظر الامتلاء، بل كنبعٍ يتدفّق من ذاته، فلا يرجو من أحدٍ قطرة. إنه ذاك العارف الذي اكتشف أن الحبّ الحقيقي ليس في الأخذ، بل في العطاء الذي لا يشترط عودة، ولا يترقّب مكافأة.
هنا، تكمن الفلسفة: الحب كفعلٍ مستقل، كصلاةٍ لا تُسمع سوى في داخلك. أليس المتصوّف يصلي بصمتٍ داخلي، لا يعنيه مَن ينظر إليه؟ كذلك الزاهد في الحبّ، يحبّ في سره، ويبتسم كما لو أنه رأى سرًّا غائبًا عن الأعين. الحب عنده كالماء في النهر، يمرّ ولا يُمسَك، لكنه يروي كل شيء في طريقه.
▪︎الزهد في الحب.. توقٌ للسموّ لا انقطاع
الزهد ليس هجرًا باردًا، ولا انسحابًا مهزومًا. إنه صعود إلى مقام أعلى، حيث يتراءى للقلب أن المحبة لا تُقاس بمن يبقى، بل بما يفيض منك نحو الآخرين. المتصوّف لا يزهد في الدنيا لأنها قبيحة، بل لأنه أبصر جمالًا يفوقها. وكذلك الزاهد في الحب، لا يعاف العاطفة لأنها مؤلمة، بل لأنه وجد في الحبّ المطلق كفايةً عن الحبّ المشروط.
فانظر إلى من زهد في العلاقات، أليس هادئًا كسكون الفجر؟ لا تُزعجه فكرة الفقد، ولا يقلقه غياب الردّ، لأنه لم يعلّق قلبه بمسمار التوقّع. قلبه كسماءٍ ممتدة، لا تسقط إذا غاب طائرٌ عنها، ولا تزداد بريقًا إذا مرّ فوقها سربٌ من الحمام.
▪︎العشق بين الغواية والهداية
يرى الفلاسفة أن العشق فتنة، وأن القلوب حين تفتح أبوابها بلا حذر، تستحيل حصونها إلى أطلالٍ مهجورة. لكن في التصوّف، العشق طريقٌ إلى الله، والغواية فيه ليست إلا انعكاسًا لضعف العاشق، لا لقوة المحبوب. الزاهد يدرك أن العشق ليس سوى درس في الفناء، لكنه لا يفنى في محبوبٍ بشري، بل يرتفع به نحو معانٍ أكبر.
العاشق العادي يقول: "أريده لي"، أما الزاهد فيقول: "أريده لنفسه". لا يبحث الزاهد عن وجهٍ يتكئ عليه، بل عن ضوءٍ يتقاسم معه العتمة. لذلك، تراه يحب بلا ألم، ويشتاق بلا جزع، لأنه أدرك أن الفقد هو جزء من اكتمال الحكاية، وأن العابرين في القلب، كالعصافير التي تحطّ على أغصان شجرة، لهم موعدٌ مع الرحيل، كما لهم موعد مع القدوم.
▪︎رمزية الزهد في العاطفة
لو أردنا ترجمة الزهد في الحب إلى رموز، لكان "الطائر الحر" أقرب صورة. الطائر يطير في السماء الواسعة، يرى كل ما يمر به، لكن لا يعشّش في كل غصن، ولا يضع قلبه في كل عشّ. هو المارّ الذي لا يملك، والمشاهد الذي لا يطالب. كذلك الزاهد، يحيا مع الآخرين لكنه لا يستوطن قلوبهم، ولا يسجنهم في قلبه.
رمزية أخرى يمكن استدعاؤها، هي "المرآة الصافية". المرآة ترى كل من يمرّ أمامها، لكنها لا تحتفظ بأحد. الوجوه تمرّ، والصور تخرج، لكنها تظلّ كما هي، صافية نقية. هكذا هو الزاهد في الحب، لا يلطّخ قلبه بحزن الغياب، ولا يحتفظ بصور الذين تركوه. قلبه كالمرآة، يرى الجميع، ولا يُبقي في داخله أحدًا.
▪︎بلاغة الزهد في اللسان العاطفي
في الحديث اليومي، قد يُقال إن الزاهد "بارد المشاعر"، لكن الحقيقة أنه "عميق المشاعر". الفرق بين البارد والعميق، كالفرق بين سطح الماء وقاع البحر. السطحيّ يشتعل ويهدأ، يضطرب مع كل نسمة هواء، أما العميق، فلا تهزّه الرياح. الزاهد يحب، لكن حبه كالنهر الذي يجري بصمت، بلا هدير ولا ضجيج.
تأمل التورية في "القلب الزاهد"، فالزهد ليس فراغًا، بل هو "فراغ ممتلئ". كيف؟ إنه الفراغ الذي يمتلئ بحضوره الخاص، فلا يحتاج إلى امتلاءٍ من الخارج. هذا القلب أشبه بـ"قمرٍ مكتمل"، نورُه من ذاته، لا من عطاء الآخرين.
▪︎ الخاتمة
الزهد في الحب، فلسفةٌ لا يجرؤ عليها إلا من امتلأ اكتفاءً. الزاهد لا ينكر الحب، لكنه يرفض أن يكون سجينًا له. يُحب دون أن يربط المحبوب بحبال التوقّعات، ويترك أبواب قلبه مفتوحة للرحيل كما القدوم.
هو كمن يصعد جبلًا ليبصر المدينة كاملة، بينما الآخرون محبوسون في أزقتها. إنه ذاك الذي أدرك أن الزهور تُشَمّ، لكنها لا تُقطَف، وأن من أراد الاحتفاظ بها ذبلت بين يديه.
الزاهد في الحبّ، هو المتصوّف الذي وصل إلى مقام "القلب الحرّ". قلبه يطوف حول المحبة الكبرى، لا يقف عند محطات العابرين. مثل شجرة النيم في قلب القرية، تهب الظل للجميع، لكنها لا تنتظر اعترافًا من أحد.
تعليقات
إرسال تعليق