أبية الريح - بين الدنيا ونور الروح
حين يشرع الإنسان في مسيرته في الحياة، يتخطى الدروب ويشيد الآمال، تكون رغباته في البداية موجهة إلى ما هو مادي، ملموس، زائل، يظل يسعى وراءها دون أن يعي أن تلك الرغبات ما هي إلا سراب يسحر البصر ويضل الطريق. ففي اللحظة التي يتحقق فيها مراده الدنيوي، يعود ليكتشف أنه ليس سوى ركام من حلم قد تحطم على أرض الواقع. تلك الرغبات التي كانت يومًا أحلامًا منقوشة سرعان ما تذبل وتذوي بمجرد أن يتم الوصول إليها. يُشبع الإنسان حاجته المؤقتة لكنه يظل في فراغ يزداد اتساعًا بعد كل إشباع وكأنما الحقائق الكبيرة لا تكون دومًا في متناول اليد وإنما في الآفاق البعيدة التي تظل تلاحقنا بينما نسعى خلف ما في أيدينا.
لكن الإنسان لا يبقى أسيرًا لهذه المتعة العابرة بل سرعان ما تبدأ نفسه في التوق إلى شيء أبعد شيء يتجاوز الحدود التي رسمتها له رغباته المادية. يبدأ في أن يدرك أن هناك فراغًا روحيًا وهو في أشد الحاجة إلى أن يُملأ. هكذا يبدأ سعيه نحو ما هو أسمى الروحانية، الإيمان، الطمأنينة التي لا تأتي من تكديس الثروات ولا تحقيق الرغبات العاجلة وإنما من البحث عن القرب من خالقه، والتوحد مع الوجود في حقيقته ولكن هذا السعي ليس بالأمر الهيّن فكما أن الأرض لا تحمل ثمرة من دون جهد، فإن الروح لا تجد راحة إلا بعد جهاد عميق، وصبر على الشدائد، وتفاني في العطاء. قد يعكف الإنسان على عمل الخير ويسهم في رفع معاناة غيره، يمد يده إلى المحتاج ويطعم الجائع ويواسي البائس، وبينما يبذل هذا العطاء دون أن ينتظر جزاءً يجد في قلبه سكينة لم يعرفها من قبل. وكأنما في كل مرة يُقدم فيها للآخرين من جهده، تُضاف إلى روحه خيوط نور تُشع في أعماقه حتى يشعر بحلاوة لم يذق مثلها من قبل.
وقد يصل الإنسان بعد هذا السعي الطويل إلى مرحلة الزهد حيث تتغير مقاييسه وقيمه فيصبح غريبًا عن الدنيا، غريبًا عن رغباتها الزائلة، لا يُحركه المال ولا المنصب ولا الشهرة. قد يبتسم لرؤية الناس يسعون وراء ما سعى إليه هو سابقًا، لكن قلبه قد وجد ما كان يبحث عنه في أشياء أخرى غير تلك التي اعتاد أن يسعى خلفها. يصبح شعوره بالأمان داخليًا مرتبطًا بالإيمان وليس بالمال بالرضا وليس بالحصول وبالقرب من الخالق لا بالاحتفاظ بمكانة أو مكان.
هكذا يتحقق الإنسان في الحقيقة من خلال تنقية روحه ومن خلال العمل الذي لا يطلب منه شيء سوى أن تكون كريمة ساعية إلى الخير. وعندما يشعر بهذه الحلاوة بعد بذل الجهد يدرك أن السعادة الحقيقية لا تكمن في الرغبات الدنيوية التي ما إن تتحقق حتى تتحول إلى عبءٍ ثقيل وإنما في الرغبة العميقة التي تُشبع الروح وتحيي القلب وتمنح الحياة طعماً آخر طعماً لا يمكن أن تجده في الماديات.
يختلف الإنسان في هذه الحالة عن غيره من الناس الذين يعيشون في الدائرة الضيقة لرغباتهم الدنيا. لقد أضاء قلبه بنورٍ يتجاوز الظلمات وأصبح يعي أن السعادة الحقيقية لا تأتي من تحقيق الأهداف الزمنية وإنما من الانصهار في المعنى، في العبادة، وفي حب الآخرين وتقديم العون لهم. في تلك اللحظة فقط يكتشف الإنسان أن الحياة كانت دائمًا فرصة ليحقق هدفه الأسمى وهو أن يلقى راحة وطمأنينة في ذاته، وأن يشعر بسلام داخلي غير متزعزع مهما كانت الاضطرابات التي قد يواجهها في مسيرته.
إنه بذلك قد حاز على سعادة أبدية لا تقتصر على اللحظات الفانية ولا تتوقف عند حدود الرغبات التي تم إشباعها بل تظل محفورة في قلبه كبرهان حي على أن الإنسان إذا خدم نفسه خدمة حقيقية فإنها لا تأتي إلا بعد خدمة الآخرين، وأنه حين يعبد الله بصدق فإن ذلك هو ذاته الطريق إلى سعادته الحقيقية.
تعليقات
إرسال تعليق