ريتا الحكيم - لا غبار على الموت
لا غبار على الموت
اليوم عُلّقتُ على جدارٍ، صورةً بالأبيض والأسود، في إطار فاخر، بدا لي الأمر وكأنه مكافأة نهاية الخدمة.
من حيث أنا الآن، أرى الجميع وهم يعبرونني دون أي اهتمام يذكر، وحدها أمي كانت تطل علي بين حين وآخر، تمسح عني غبار الزمن، ترتشف قهوتها وهي تتأملني بحنان، تحدثني عن عقوق إخوتي، وما آلت إليه أحوالهم.
شكوت لها من حكاك في أسفل ظهري، بادرتني بمسحة من يديها وابتهالات بشفائي، رجوتها أن تحضنني بين ذراعيها، قالت لي:
- كفاك دلعا يا ولد، كُفّ عن الجلوس هكذا دون أن تفعل شيئا، أما اكتفيت من هذا الشرود واللامبالاة؟
هيا انهض بسرعة لتزيل عن جسدك التراب العالق عليه ريثما أكمل طعام الغداء وسأعود إليك لنشرب القهوة.
طال انتظاري إلى أن غفوت ولم أصحُ إلا على صوت دندنة أختي _المبتهجة دوما_ لأغنية وردة الجزائرية "بتونّس بيك"
أنصت بمتعة مراهق يلفظ طفولته على مشارف الشهوة، تكورت في المكان وفي حضني "بهية" ، غبت للحظات في سواد شعرها وليله الحالك، لم يدم ذلك طويلا ، أختي "هناء" توقفت عن الغناء وصفقت وراءها الباب بقوة.
الكثير من الشوق لمن احتلت حضني البارد للحظات خلتها دهرا، والقليل من الوقت تكفل بإعادة تدوير ذاكرتي التي توقفت منذ زمن.
خطوات قدمين صغيرتين تتنقلان بسرعة في أرجاء الغرفة، انتزعتني من أفكاري، استغربت وجود طفل صغير في بيتنا، خاصة وأنه يشبهني تماما رغم الفارق العمري بيننا.
بين يديه الصغيرتين مسدس مائي صغير، رجوته أن يرشني به ريثما تعود أمي مع فنجان القهوة، لم يسمعني أو ربما أنا ما استطعت الكلام.
عاد الهدوء بعد خروجه وعدت إلى قوقعة أفكاري، أنهش محتوياتها، وأعتصرها لأتذكر من هذا الصبي، وأخترع ألف جواب لسؤال واحد، لماذا لم يسمعني؟
شارفت الشمس على المغيب، لم تعد أمي ولم أشرب القهوة الموعودة.
يا لهذا الليل الطويل القادم إلي وكأنه ينتقم مني لأنني أكره حلكته، كثيرا ما لعنته في سرّي وكلتُ له شتائم لو أدرجوها في كتاب، ستغدو معجما قيّما تتناوله الأجيال القادمة ومن خلاله تعرف كيف تطورت الشتائم بعد كل انتكاس أصاب البشر وبعد كل خيبة من وجودهم على قيد الحياة للاشيء، فقط لزيادة عدد السكان، وليكونوا تعويضا عن خسائر الأرواح في الحروب.
تذكرت أنني لم أغادر هذا المكان ولم أستحم منذ سبع سنين وأكثر، ليت أمي تعود لتزيح شبكات العنكبوت المنتشرة في زوايا المكان.
ارتجفت أوصالي حين لمحتُ أمي غافية في نقطة قريبة مني جدا.
مع من كنت أتحدث إذن منذ قليل؟
كيف رأيت بهية وهناء؟
هل أنا مجنون؟
جاءني الجواب على عجل هذه المرة، حين أحسست بفوطة مبللة تمسح الغبار عن صورتي وصورة أمي المعلقتين على ذاك الجدار، كانت بهية بكل صمودها وعنفوانها، تذرف دموعها، وتمسح غبار الموت عنّا.
تعليقات
إرسال تعليق